الأحد، 10 فبراير 2013

التاريخ الأثري العُـــماني



إن التمايز البيئي في عُمان جعلها مميزة بطبيعتها المغرية التي جذبت اليها منذ عصور ما قبل التاريخ البشر و استوطنوا عدة مناطق متفرقة. فجبال الحجر التي تمتد حوالي 600 كيلومتر من رأس مســندم الى رأس الحد تطل من الجهة الشرقية نحو المحــيط الهنــدي و من الجهة الغربية تعانق صحراء الربع الخالي. و تكاد العين لا تخطئ رؤية قمم تلك الجبال الشاهقة في السماء. و يشق تلك الجبال اخاديد تمثل مجاري اودية خصبة مثل وادي ســمائل الاخدود  الثري بحضاراته و تاريخه العريق.

  و ادت تلك الاخاديد ترابطا متميزا بين الساحل و الداخل فمنذ عصور ما قبل التاريخ شكلت تلك الاخاديد ممرا و طريقا دائما بين سكان الداخل و الساحل و لم تنقطع تلك المجموعات عن بعضها و طريقها الى البحر لتصدير و استيراد البضائع و الادوات.

فتشكلت على تلك الاخاديد مياه سطحية دائمة جذبت اليها مربي الحيوانات و الصيادين على حد سواء، فعلى تلك المياه تكاثرت الحيوانات البرية بقطعان كبيرة اصحبت تجوب المراعي بين الجبال و كان الانسان يصطادها. و بعد ان تطورت الزراعة و اصبح الانسان يزرع محاصيله بنفسه زرع السهول على ضفاف الوديان و شق سواقي من المياه السطحية و اسس نظام ري بديع.

كما اتخذ الانسان من صخور و تربة تلك الجبال لصناعة الاواني خاصة اواني الحجر الصابوني و الفخار و ادوات حجر الصوان في عصور ما قبل التاريخ. و هناك بعض المؤشرات ان بعض ادوات الفخار في العصور القديمة هي من عُمان. و قد اكدت الابحاث ان الادوات النحاسية المكتشفة في حضارات بلاد الرافدين اصلها من عُمان. و ما زالت جبال عُمان مصدرا مهما لإستخراج النحاس. و قد تم اكتشاف مواقع كثيرة و كبيرة في جميع شمال عُمان عن استخراج النحاس تعود الى الالف الثاني و الاول قبل الميلاد.


و قد مثل البحر لعُمان العنصر المهم للإستيطان و تلاقي الجبال مع المحيط و الصحراء و شكل لوحة تنوعت فيها الحياة البرية و تشكلت منها الحياة البشرية على انماط مختلفة مترابطة. و ان ساحل البحر العماني غني بنبات "القرم" ( المنغروف) و الصخور المرجانية و التي شكلت ملاذا للاسماك التي جذبت الصيادين و استوطنوا عددا من مناطق على طول ساحل عمان.

إن اقدم الاثار البشرية في عمان تمثلت في ملتقطات سطحية لأدوات حجرية كالسواطير و المدقات و ادوات الطحن و المكاشط المصنوعة من حجارة حصوية تأثرت كثيرا بعوامل التعرية على مدار آلاف السنين. و يمكن مشاهدة هذه المخلفات الاثرية بصورة متفرقة عبر مناطق كثيرة من جبال القرا في جنوب عمان بمحافظة ظفار الى جدة الحراسيس في وسط عمان بمحافظة الوسطى. و على طول جبال الحجر على الساحل من مسندم الى وادي الفليج بولاية صور.

جاء اول اكتشاف في ولاية صور على جرف مرتفع 130 مترا عن سطح البحر يطل على بحيرات قديمة بمصب وادي الفليج. حوت تلك الترسبات مجموعات من ادوات و مخلفات صناعية. و قد تم مقارنة هذه الادوات باخرى من الشرق الاوسط و  دلت على انها تعود الى العصر الحجري القديم.

 

اداتان حجريتان تؤرخان الى عصر البلايستوسين الاسفل و بداية البلايستوسين الاوسط عثر عليهما في ولاية صور "في ظلال الأسلاف"

 

و في منطقة قارة الملح في ولاية أدم تم العثور على انواع من ادوات الانسان بالعصر الحجري و التي تعود الى 50 ألف سنة و استمرت الابحاث التي كشفت عن بعض الاثار في جبال القرا في محافظة ظفار و التي تعود حسب التقدير الى مليون عام.

و مازال التأكيد على وجود الانسان قبل مليوني و ستمائة سنة محض اختلاف و التأكيدات على ذلك اعترف بها البعض من الاثاريين و انكرها البعض بسبب غموضها و قوة الجدال و الاختلاف فيها. و الحقيقة الغائبة في عصور ما قبل التاريخ ما زالت عظيمة و لا تشكل الحقيقة النهائية عن حقيقة الانسان في ذلك الوقت ما عادا في عصر الحجري الحديث فهو اكثر وضوحا من عصر الحجري القديم.

و تمتد فترة العصر الحجري القديم منذ ظهور الانسان حتى الالف العاشر قبل الميلاد. و امتد العصر الحجري الحديث من الالف العاشر قبل الميلاد حتى الالف الرابع قبل الميلاد و في هذه الفترة وجدت ادوات و بقايا هياكل الانسان اكثر وضوحا و تأكيدا و لم تكن كلها نهاية المطاف ، حيث انها لا تعبر الا عن الشذر القليل عن حقيقة الانسان في ذلك الوقت الا انها شكلت بعض الصور المتواصلة و الواضحة عن حياة الانسان في تلك الفترة.

و في الألف التاسع قبل الميلاد اشار السجل الاثري الى زيادة هائلة في مخلفات الانسان بهذه الفترة على امتداد شبه الجزيرة العربية ، و ظهرت اشكال اولية من الزراعة و استئناس الحيوان حتى ظهور مدنيات الشرق الادنى.

 

 

 توضح هذه الصورة ادوات العصر الحجري الحديث وهي نماذج من معثورات مشابهة من حضرموت الى رأس الحد ، و تعود الى نهاية الالف السابع الى الالف الخامس قبل الميلاد "في ظلال الاسلاف"

 

 و اعتمد المجتمع في عُمان على الصيد في بدايته حتى دجن الحيوانات و اقام الزراعة و الواحات و كان له فضل في بعض الصناعات التي ظهرت في فترة ظهور الحضارات في وادي الرافدين و السند و جنوب شرق ايران.

و قد كشف موقع في رأس الجنز في ولاية صور في ربوة عن مواقد للنار و اساسات اكواخ و كما كشف عن مواقع تحوي على حجارة مخروطية محزوزة يربط بها حبل حول الوسط بأحجام مختلفة بين 4- 70 كيلوغرام، و هو مؤشر بأن حيوانات ذات احجام مختلفة كان يتم اصطييادها في عمان في تلك الفترة.

في ظلال الاسلاف

و قد تميزت طريقة الدفن في هذه الفترة بالدفن الجماعي و القرفصائي و قد كشفت المسوحات عن ادوات الزين التي ظهرت خلال الالف الخامس قبل الميلاد و المصنوعة من الصدف ، بالاضافة الى بقايا عظام الحيوانات المستأنسة 


و قد ظهرت الرسومات في شبه الجزيرة العربية خلال الالف السادس قبل الميلاد و هو الحال في عُــمان. و و في السويح بولاية جعلان بني بو علي بمحافظة الشرقية تم العثور على مواقع عدة تعود الى الالف السابع و السادس قبل الميلاد و بها ظهرت انواع ادوات الصيد و الزينة. في ظلال الاسلاف

 

 ادوات عثر عليها في موقع السويح بجعلان تعود الى الالف السابع قبل الميلاد في ظلال الاسلاف


و في محافظة ظفار تم اكتشاف نوع من الكتابة التي اطلق عليها الكتابة الشحرية و قد وجد مثيلا لها في ولاية كولارادو الامريكية و تعود الى الالف الرابع قبل الميلاد و رسم لسفينة في كولورادو مطابقة تماما لرسم اخر في محافظة ظفار في عُمان.

و حتى الآن ما تزال الاكتشافات الاثرية في عُمان في بدايتها و في كل موسم تظهر معلومات مثيرة و تصدر مشروع رأس الحد المشترك اكبر بحث اثري في سلطنة عُمان كشف عن حقائق كثيرة جدا اهمها تلك التي تعود الى ما قبل التاريخ و مكنونات مدهشة أثار الجدال و النقاش في حضارات سكنت عُمان و لها مساهمة فعالة في نشوء حضارات وادي الرافدين و وادي السند.

و على ذلك كشفت بعض اللقى الاثرية في رأس الحمراء عن مقتنيات متنوعة منها جلبت من وادي السند و دلمون و جنوب شرق ايران مما اظهر علاقة سائدة منذ عصور متقدمة قبل التاريخ و هي دليل الى الابحار المتقدم في عرض المحيط.

و كشفت الاثار عن حيوانات ذات احجام مختلفة لم تعد في عُمان حاليا كان تصطاد و قد دل على ذلك بقايا عظام شويت في بعض مواقد النار في رأس الجنز و رأس الحمرا و السويح في جعلان. و قد يعتقد ان البحر كان منحسرا نحو 40 مترا ما قبل الالف العاشر قبل الميلاد   مما يعزو ان بعض مواقع الحضارات غطاها البحر و ما زالت موجودة آثارها تحت البحر. و بسبب كلفة البحث الاثري تحت المياه فقد يكون من الصعب اكتشاف تلك المواقع الاثرية. و يعتقد ان هناك آثار غنية لمدن غمرتها مياه البحر في الوقت الحالي. فقد كانت الخليج العربي من رأس مسندم الى دولة قطر مساحة برية تغطيها المستنقعات و مصبات شط العرب و به الكثير من الكائنات الحية مثل الغزلان و الحمير الوحشية و السفانا بينما صار الآن تحت البحر. 


المراج:
سيرج كلوزيو وموريس توزي في ظلال الأسلاف وزارة التراث والثقافة الطبعة الاولى