الثلاثاء، 27 ديسمبر 2016

وادي سمائل

نه الصدع العظيم الذي فصل الكتل الحجرية الكبرى في عُمان إلى قسمين، هذا الأخدود الذي تكون قبل ملايين السنين من الحجر الجيري و الحجر الناري، و الذي يضم أكبر مجموعة صخرية من صخور الأفيولايت و الذي لا تشابهه تشكيلات و مساحة كبيرة في الأرض. هذه الصخور التي تشكلت من الحمم البركانية التي نشطت تحت قاع المحيط و بردت في عمقه مثلت اليوم أضخم تراث طبيعي في عُمان.
من الجهة الغربية لهذا الوادي يرتفع في عنان السماء سلسلة جبل الأخضر و التي تمثل الصخر الرسوبي و فيها من الميزات الطبيعية الكثيرة و التي لا تحصى، وفي هذه السلسلة عدد من الهضاب الكبيرة التي استوطنها الإنسان عبر العصور. و إن الفائدة الأولى من هذه السلاسل الحجرية الوديان التي كانت  ومازالت المصدر الكبير لتجمع مياه الأمطار و منها استوطن الإنسان لفترات طويلة جداً.
إننا أمام وادٍ لا يمثل حجماً طبيعياً ضخماً فحسب إنما نحن نتحدث عن وادي له أبعاد سياسية و اجتماعية و  اقتصادية و تاريخية و علمية، و يمثل منطقة جغرافية و اجتماعية واحدة. هذا الوادي الذي يبدأ من نجد المغبارية في ولاية سمائل حيث تتجتمع في هذه المنطقة مياه وادي العسي القادم من أعالي قمم الجبل الأخضر ، و وادي المسقاة القادم من عمق كتلة الأفيولايت الشرقية. استخدمه الإنسان منذ وقت مبكر ليكون ممر رئيسي يربط مناطق عُمان القديمة والحديثة، و تشكلت منطقة جغرافية واسعة تضم عدد من الأودية الرافدة لوادي سمائل مع الجبال و السيوح و البلدان و القبائل بمسمى وادي سمائل.
وادي سمائل هو المعبر الرئيسي لأهل عُمان في حقب و عصور تاريخية قديمة جداً حتى يومنا هذا. عبر دلتا الوادي في مدينة السيب تبدأ حكاية المسار البشري و الطبيعي. مسار ليتنا نستطيع أن نؤجز بعض أهميته العلمية و الاجتماعية و الاقتصادية عبر سطور قليلة نتحدث فيها عن الأخدود الكبير.
في ساحل بحر عُمان تقع آخر مدينة قامت على ضفاف وادي سمائل و التي مثلت المنفذ البحري الهام و المُلتقى الاجتماعي بين سهل الباطنة ومسقط و داخل عُمان. ينقسم وادي سمائل في السيب إلى ثلاثة أقسمام هي: وادي اللوامي، و وادي البحائص، ووادي العرش. هذه الأودية الثلاث تمثل دلتا وادي سمائل و قد كانت من أفضل المناطق زراعياً بما تحوي من التربة الطمية الغنية بالمواد العضوية التي ألقاها وادي سمائل عبر ملايين السنين من وجوده.
بعد أن نخرج من “السيب” متجهين جنوباً نحو رؤوس وادي سمائل تقابلنا مدينة “الخوض” و التي تقع في عمق صخري تجري فيها المياه طوال السنة و أخذ اسمها نسبة إلى كثرة خوض المياه. و نترك الخوض و نتابع المسير جنوباً لنصل “فنجاء”، المدينة الرائعة بخضرتها و مياهها و الروافد المائية الكثيرة، هنا في فنجاء نستطيع مشاهدة الجروف الصخرية التي شقها الوادي عبر حياته و شكل الإنسان عمارة فنية بديعة فوق هذه الصخور في عمارة هندسية جميلة، تحكي لنا الأهمية الكبرى التي كان يحتلها وادي سمائل. و في فنجاء تصب عدد من الروافد  في الوادي الرئيسي مثل وادي الحيضان ووادي الضبعون.  و بعد فنجاء مباشرة وعلى سفح الجبل الأحمر تربض “العمقات” و “الملينة” قريتان كالأختان بجمالهما الأخاذ. في الجهة الغربية تحت جبل ثميد عند رؤوس أحد روافد وادي الضبعون تقع “حميم” بفلجها الحار، و جارتها جنوبا “ثميد” و هي أحد القرى التي أخذ جبل ثميد منها اسمه و في شرقهما تقع “الوغلة”.
قد توقفنا في العمقات و الملينة في قلب الوادي الرئيسي نتابع المسير نحو رؤوس وادي سمائل، بعد الملينة جنوباً نجد أحد روافد وادي سمائل المعروف “بوادي النجوم” ثم نتخطى ملتقى وادي النجوم بوادي سمائل فنصل إلى مدينة “بدبد” بقراها الوافرة الظلال الغزيرة المياه العميقة الجذور التاريخية، فأول ما ندخله هي قرية “مزرع بنت سعد” من الضفة الشمالية لمسار الوادي، و “القرطاع” و “الخوبي” من الجهة الجنوبية، و ثم بدبد و “البويرد” حكاية لها معناها في تاريخ عُمان العريق. و في هذه المنطقة يلتقي الوادي الضخم “وادي منصح” أحد روافد وادي سمائل العظيمة، و هذا الوادي يعتبر نصف وادي سمائل من حيث عدد الروافد وطول المسار، فأول منطقة ندخلها في وادي منصح هي “نفعا” بلاد لها من السحر سطور تحدثنا كلما دخلنا فيها، بلاد واسعة فسيحة جميلة، فإذا واصلنا المسار نحو رؤوس وادي منصح نمر على عدد كبير من البلدان منها “الرمرامي” و “الحن”” و “غرابة” و “مسبت” و “جردمانة” و جميعها تقع على روافد وادي منصح. و وادي منصح يشترك في الرؤوس مع وادي الطائيين وأودية ولاية العامرات. فإنه لا يكفي المقال لسرد الحياة البرية و الجمال و عجائب وادي منصح ونكتفي بهذا القدر.
قد وقفنا في مدينة بدبد عند مُلتقى وادي سمائل مع وادي منصح، فهنا نريد أن نتوقف قليلاً لنعرف عن مدينة بدبد شيء يسير، هي المدينة التي استقطع اسمها من عبارة “لابد لابد” أي أنها المدينة التي لابد المرور فيها للمسافرين إلى الساحل أو الداخل من عُمان، هي مدينة بها حصن شامخ بقاعدة واسعة يضم عدد من القلاع الحصينة، و بها آثار تاريخية قديمة  من العصر الحديدي تدل على استحكامات عسكرية قوية، و تعتبر أثرى مناطق عُمان زراعياً و اقتصادياً حتى صار يضرب بها المثل لتسمين الهزيل و إشباع الجائع، وقيل إذا جاعت فخذها إلى بدبد، أو الهزيلة تودى بدبد.. ساهمت بدبد عبر التاريخ العُماني في أحداثه و معتركاته و تغيير مساره و ثوراته. إنها باختصار بوابة عُمان البرية التي من يقبضها قبض على عُمان الداخل. و نشد الرحال من بدبد متجيهن غرباً هذه المرة لنلتقى في “المُلتقى” قرية لها دلالة تاريخية مختلفة و لها أسباب خاصة لبنائها و وجودها، هنا نفترق.. أو نلتقي كما هو اسمها، هنا ينقسم اتجاه رحلتنا جنوباً و إتجاه آخر غرباً ، جنوباً عبر “سرور” بلاد السرور و السعادة و السؤدد، بلاد كثيرة الشجر أفلاجها عذبة تنهمر، هي بلاد السرور فعلاً .
بعد سرور نواصل المسار جنوباً لنمر على ملتقى وادي نداب بوادي سمائل غرب “لزغ” قرية محايدة بعيدة عن ضجيج الأودية، ترويها مياه الوديان و هي في سلامها و سكونها الجميل.
لنذهب فالرحلة مازالت مستمرة و طويلة، لنشاهد في ضفاف الوادي من الجهة الشمالية آثار قد سحقتها عوامل التعرية و بقيت تصارع لأجل البقاء إنها ” الردة” بقايا حياة لنبي الإنسان، بعدها نصل نحو مُلتقى وادي العق مع وادي سمائل، و هنا تنفصل الطريق عن الوادي الرئيسي لتتجه جنوباً نحو أخدود ضيق يمر فيه وادي العق، هذه الطريق هي الموصلة نحو الشرقية بمدنها العريقة شامخة في عنان الوجود. سوف نصادف في مسارنا بوادي العق قرى عديدة و هي : الدسر ثم السيجاني و ثم الطوية و السنسلة و نقضي رحلتنا منه في نجد مريموه لننحدر جنوباً عبر وادي عندام في الجرداء. كأننا نسينا وادي نداب.. تقع في وادي نداب قرية واحدة و هي “نداب” إنها قرية تدفن في ثراها تاريخ طويل غني بالآثار.
من الأفضل أن نترك وادي العق و نواصل الرحلة نحو رؤوس وادي سمائل، إلا أننا تركنا خلفنا مسار لطريق من الأفضل أن نسلكها و لكن قبل ذلك لابد أن نخبركم عن قرية “هصاص” هذه القرية تقع على الضفة الجنوبية لوادي سمائل بعد مُلتقى وادي العق، قرية واسعة في وسط الرحاب الواسعة يلتقي عندها وادي صيا. بعد مُلتقى وادي صيا في هصاص نشاهد بساط أخضر ترتفع منه منارة مسجد قد تشكلت من ذلك لوحة فنية، هذه هي “العوينة” بلاد منفردة كلزغ بعيداً عن ضجيج الوادي و الطرق.
الآن نعود إلى المُلتقى، في المُلتقى يلتقي وادي سمائل بوادي المُلتقى و الذي يتكون من ثلاثة أودية أهمها وادي الجيلة و الذي يجب أن نسير فيه لنتعرف عليه، بعد عبورنا أخدود ضيق بين جبال الملتقى وجبل الرسة نتعرف على  الملتقى بحارتيها الملتقى الحدرية و العلوية فنصل إلى ملتقى وادي الجيلة مع وادي ماء و وادي البسيتين، عند هذه النقطة يجب أن نتجه جنوباً في سيح طويل عبر جبال شاهقة.
لكننا نواصل المسير غرباً عبر وادي الجيلة لنصل إلى قرية أشبهها بمدينة عجوز، إنها “فيقا” القرية التي اخذت اسم “فيحة” اليوم، إنها من أجمل مناطق الوادي في جرف ضيق يجبر الوادي فيه بأن يجري ليشكل بركاً ومساقط مائية بديعة الجمال. في فيحة آثار تاريخية كثيرة و الجلوس فيها احساس بالهيبة التاريخية العظيمة خصوصاً لمن يعرف عن قصتها و أساطيرها. قد لا يكفينا الوقت و يجب أن نتابع المسير.. بعد الخروج من فيحة بما فيها من الفلجات و المسفاة نشاهد أبراجا في قمم الجبال مفترشة تحتها بساط واسع شديد الإخضرار فهذه هي “الجيلة” الذي أخذ الوادي اسمه منها.. بعد الجيلة نتجه غرباً نحو جبل ضخم شامخ لنجده قد ضم تحته “البير” قرية صخرية بها فلج جميل و جنوبها تقع “الهوب” إنها أختها التوأم تعيشان تحت الجبل العظيم بسلام وإطمئنان.
حالياً يجب أن نعود نحو المُلتقى مرة أخرى، لنواصل المسير عبر سيح البسيتين إلى قلب الوادي، نحو مدينة سمائل.. بعد خروجنا من المُلتقى نسير مسيراً طويلاً بدون أن نجد أي بلاد حتى نصل المدينة الكبيرة مدينة “سمائل” التي أخذت المنطقة كلها اسمها من وادي سمائل من هذه المدينة العريقة، مدينة سمائل و أي سطور نستطيع أن نتحدث فيها عن هذه المدنية؟ سنترك الحديث لوقت آخر لأننا في عجلة من الأمر. في أخدود ضيق بين جبال الأفيولايت نتابع المسير في مياه تنبع و تفوح من كل الجهات و أشجار كثيفة و نسيم عليل… نتابع المسير نحو 14 كيلومتر مسار الوادي المتعرج لنخرج من مدينة سمائل، في طريقنا نجد بأنه تلتقي عدد من الأودية الصغيرة مثل وادي الدن و الإبراهيمية، وقُبيل خروجنا من الأخدود الضيق نشاهد شموخ الراسيات فوق السماء ، إنه منظر لا يُفوَّت… و عند “المدرة” نجد مُلتقى وادي الهوب و وادي هيل ووادي السدر، ويقع في وادي هيل ثلاث قرى و هي : “المنابك” و “حنة” و “هيل” قرى تعانقت تحت الشامخ المهيب “جبل هيل”، مشكٍّلة منظراً رائعاً لا تُخطئه العين.
هنا يجب أن نتوجه جنوباً فالرحلة لم تنتهِ بعد..
بعد خروجنا من هيل نواصل المسير عبر سيح الراسيات حتى نصل قرية “سيجا” قرية جميلة منفردة بحيويتها و كينونتها الهادئة،و في الجهة الشرقية بحجر الأفيولايت يأتي وادي فلج المراغة و الذي به قرية “بوري” و “فلج المراغة” يشترك الوادي مع وادي محرم ووادي سقط و له ميزاته الرائعة إلا أننا يجب أن لا نتوقف فلنواصل.. نصل إلى أول قرى وادي بني رواحة لتقابلنا قرية “منال” و أختها “بياق” قريتان متصافحتان بجمالهما و عطائهما و سكون الحياة فيهما. “”وادي بني رواحة” هو الرافد الثاني لوادي سمائل وادي جميل يضم عدد كبير من القرى نتعرف عليها عبر مسيرتنا هذه، نصل إلى “العين” و “وصاد” و “وادي قري” و “الرسة” و”المحل” بين الجبل الأشم من الحجر الرسوبي غرباً و الحجر الناري شرقاً تنبسط قرى وادي بني رواحة تتحدث فيما بينها بمزحاتها و ضحكاتها و سمرها الذي لا يُمل..
في هذا الوادي تلتقى عدد من الأودية أهمها وادي قري يشق الجبل الشامخ و يشكل بداخله بدائع خلق الله، و وادي الرجم و ثم وادي الشوعية، نصل عند قرية المغبارية..
بدأت الرحلة تنتهي.. في قرية المغبارية نصل إلى آخر رؤوس وادي سمائل، في الجهة الغربية من أعالي قمم الجبل الأخضر يصب وادي العسي الذي افترشت قرية العافية منه مكاناً مرموقاً يحسده كل من يراه.. إنها قرية محسودة بحق..
و في الجهة الشرقية تشق عدد من الأودية تلتقي في قرية المغبارية و التي يسمى بوادي المغبارية بعد مروره بقرية “الفلجين” القرية المخبأة بين الصخور، قرية تفاجأك عندما تصل إليها ببسمتها اللطيفة. بعد إلتقاء وادي المغبارية و وادي العسي تشكل أول أودية وادي سمائل و هو “وادي المسقاة” أي أن هبوط هذا الوادي يغذي أغلب قرى و مدن وادي سمائل. فهنا نجلس في “السحاماة” نشاهد الأخدود من بعيد وقد عبرناه بسرعة و لكن يجب أن نمكث فيه يوماً لنرى الطبيعة و يد الإنسان في عناقهما الهادئ.
نحط الرحال هنا و نستريح و نتذكر خمس مدن   في مجرى وادي سمائل و عدد آخر من القرى الكبيرة و التي ستكون يوماً ما مدن في العمران بالنهضة المباركة، و نتذكر أهمية هذا الوادي كمعبر رئيسي استخدمه الإنسان منذ آلاف السنين و استوطنه لغزارة مياهه، و قربه من الساحل، و خصوبة أرضه، و حصانة موقعه، و أهميته التجارية، و أهميته السياسية، و أهميته الاجتماعية، فبه قرى بنيت بقسوة و صعوبة فقط لأن موقعها في وسط الاقتصاد و الاجتماع و السياسة لتبقى ترفرف قرى وادي سمائل و جباله و حياته قرن بعد قرن تصارع لأجل البقاء.

فردوس في وسط الصحراء.. الأفلاج

هناك تحت الجروف الصخرية الوعرة وبين الكثبان الرملية الحارقة تربض جنات تضج بالحياة، تتخللها أنهار تحمل مياه صافية عذبة..
لا يمكن لأحد أن يتخيل بساتين الفاكهة حقول واسعة متعلقة في جرف صخري مرتفع، أو في صدع لا تعرف ما بداخله حتى الأقمار الإصطناعية إنها إرادة سخرت الصحراء إلى واحات ممتلئة بالحياة والمياه والجمال.
هنا في عُمان فجَّر التعاون بين الأسلاف أفلاج حافظت على الحضارة العُمانية على مدى عصور عريقة،إنهم بذلوا كل ما بوسعهم لأجل أن نأتي نحن اليوم ونجد كل مقومات الحياة كاملة ومستمرة.
إن الصعاب التي كابدها أولئك الأجداد لشق فلج واحد لا يمكن أن يستوعبها اليوم أي فرد من أفراد العصر الحديث، إن الأرواح كانت تقدم سهلة لأجل عمارة الفلج، والأجساد تبلى والفلج مازال لم يكتمل.. إنها إرادة قوية قهرت أقسى ظروف الطبيعة.
من شرفة أحد الأبراج تستطيع أن ترى عظمة مساحة ما خلفتها تلك الأفلاج ومن صفحات التاريخ يمكنك أن تعرف ضخامة الإنتاج الذي قدمته الأفلاج للمجتمع عندما كان يحب العطاءة.
قد يعتبر البعض أن عُمان ليس لها قيمة حضارية مثلتها المخلفات الأثرية قدر ما لمصر أو العراق ما تحتفظه من آثار يتهافت عليها العلماء و الكتاب، بيد أن عُمان لو اعتبرنا الأفلاج فقط هي الأثر الوحيد الذي تركه لنا الأسلاف وأظهرنا هذا الموروث بقيمته الحقيقية بثقة وبلا خجل لعرفنا أن الحضارة الإنسانية من أعظم ما صنعت هو نظام الري الذي بدأت ملامحه في عُمان منذ نهاية الألف الرابعة قبل الميلاد لتستمر منذ ذلك الحين حتى زمننا هذا قاطعة درجات في التطور حتى اكتمل في نظام ري معقد ذو سمات لا يمكن حلها إلا بدراسة تستمر سنوات طويلة.
نظام قطع عنان التطور ومزق كل صنوف الحضارات وذللها لتبقى تعتمد عليه في ازدهار بلاد طالما وقفت بشموخها في عصور تعاقبتها الصعاب والأحداث المميتة.
الفلج نظام ري معقد لا يمكن معرفته إلا بدراسة كل جوانبه من بداية علم المياه والجغرافيا
والإجتماع والهندسة المعمارية، لأنه يعتمد على طبيعة الأرض وديناميكية المياه الجوفية وطبيعة الحياة الاجتماعية والمناخ والعمارة الهندسية والزراعة وعلم الآثار والتاريخ.
و في هذا الزمان هناك أفلاج خلفها لنا الأجداد ولكن للأسف اندثرت منذ زمن ليس ببعيد وهي في حاجة ماسة لإحيائها و بوجود التقنيات الحديثة يمكن إعادة إعمارها والمحافظة عليها واستغلالها،حيث وصلت عدد الأفلاج الميتة التي تم حصرها في تعداد الأفلاج 1000فلج و ربما العدد أكبر من ذلك ولكن ما يهمنا هو أن كثير من هذه الأفلاج إعادة إعمارها ليس بالصعب و إنه مازالت المياه متوفرة في منابعها.
و الحقيقة لا ننكر جهد الحكومة في ترميم الكثير من الأفلاج إلا أننا في حاجة إلى إعادة النظر في طريقة ترميم هذه الأفلاج خصوصا الأفلاج العِّدِيَّة، فمثال واحد وهو: – توجد قنوات بعض الأفلاج في أعماق صخور متماسكة و قوية وليس من الحكمة شق هذه الصخور وحفرها وبناء القناة الإسمنتية، والأفضل هنا تنظيف هذه القنوات و بناء حاملات صخرية في الأماكن الهشة وترك القناة كما هي عليه سابقا فهو أحفظ لها وأسلم.
إننا لا نتمكن من حصر موضوع الأفلاج في سطور قليلة لأنه موضوع يحتاج إلى عناية دقيقة وحرص شديد،فنهاية فلج يعني نهاية مجتمع، وعمارة فلج يعني بداية حياة،ومن هنا أدعو كل المجتمع نحو العناية بالأفلاج  والبحث عن معرفتها حتى نتمكن من فهمها مما سيؤدي نحو احترامها والمحافظة عليها لتستمر لأجيال تتعاقب في المستقبل البعيد.

الإمام ناصر بن مرشد بن مالك اليعربي

عد زمان طويل من التمزق والتفرق والاستعمار الذي عاشته عُمان، و كانت مقسمة على عدة مقاطعات و لكل مقاطعة حاكمها الخاص الذي في حرب مع المقاطعة الأخرى، وفي مدن الساحل يربض العدو البرتغالي بهمجيته وضراوته، وقد قضى على أجيال بالحرق و التقطيع والقتل، و قضى على البنية التحتية للبلاد بسبب احتكاره المميت لجميع الداخل و الخارج من عُمان لمدة 120 عام. و في منطقة ساحل عُمان الشمالي <الإمارات العربية المتحدة حاليا> يسيطر البرتغاليين و الفرس بإزدواج على هذا الجزء من عُمان. و في الداخل النزاع و الحروب كانت هي حديث العامة و الخاصة، وتكاد تعرف عُمان بالموت و أهلها ينزحون عنها باستمرار.
فمنذ قبل احتلال البرتغاليين على المدن الساحلية لعُمان في عام1508 ميلادي كانت تعاني من الحروب الداخلية و الإنحدار السياسي و الاقتصادي حتى التقمتها الجيوش البرتغالية والفارسية و كادت عُمان تنتهي من هذا الوجود.
في يوم شاء الله تعالى لليل أن ينجلي وتشرق الشمس ساطعة بهية في سماء بلاد طالما رعتها العناية الإلهية وحفتها الرحمة الواسعة؛ اجتمع 70 رجلا من نخبة علماء و وجهاء عُمان في قرية “قصرى” في مدينة الرستاق. في تلك اللحظات تقدم الشيخ العلامة خميس بن سعيد الشقصي -رحمه الله- ليقدم الخلاص لمنطقة الخليج العربي و المحيط الهندي كافة وذلك بترشيحه ناصر بن مرشد بن مالك اليعربي ليكون إماما منتخبا لعُمان و الذي أيده الجميع، ومن ثم تم إبلاغه بالقرار المتخذ.
لم يستطع ناصر بن مرشد اليعربي البالغ حينها من العمر 21 عاما من الرفض بسبب النصوص و القوانين التي تنص على الإنتخاب في النظام الإسلامي السياسي لدى المذهب الإباضي. وهنا تقدم الرجل الشاب ليضع شروطه لموافقته على تولي هذه المسئولية العظمى ليكون شرطه مدويا في صروح التاريخ و هو طلب ” الولاء التام” فقط. بايعه العلماء و الوجهاء و تم انتخابه إماما للشراة.
إنه يوم عظيم على أهل عُمان و المحيط الهندي كافة، و يوم ثقيل على الإمام الجديد الشاب الفتي ناصر بن مرشد اليعربي، لم يكن يدري حينها كيف يبدأ في ظل حال لا يرثى عليها، حال تمزقت فيها عُمان لمئات السنين، و مستعمر أحكم قبضته على جميع الأقاليم ويملك قوة لا تقهر، وله جيوش كالجراد تزداد في غمضة عين حين يظهر ما يهدد وجودها.
في عمر الواحد و العشرين عاما يستلم مسئولية توحيد البلاد بعد التمزق الطويل و اخضاع ممالك متناحرة و قبائل متمردة و قتال ألفه الناس جميعا منذ مئات السنوات، نحن لا نستطيع أن نفخر بهتلر وقوته الضاربة، و لا نابليون و سياسته العاتية، و لا الاسكندر ومملكته الضخمة فقط لأنهم لم يستلموا الملك إلا من ملوك و لم يؤسسوا مملكة من الصفر. كما أن استمرار مملكتهم كانت حول وجودهم و فور سقوط بعضهم سقطت حتى شخصياتهم ليموتوا منتحرين..
إننا لنا فخر خاص و حكاية نقصها جيل خلف جيل عن إمام ذو الواحد و العشرين عاما، و هيبة ملك راجحة عن مئات الملوك، و عقل سياسي أذعنت أمامه ساسة العصر، و عسكري تركع أمامه قواد جيوش العصر الحديث قاطبة. في يوم كانت شمس عمان أفلت و حل الظلام و القتل و الخراب، في يوم قد يأس الأقوياء من طرد النصارى من بلادهم يقرر السبعون عالما بأن يكون الفتى ناصر إماما لعُمان لتوحيدها و طرد المستعمر الجاثم.. إنه قرار خطير قد يكونوا اختاروا إنهاء وجود العرب في هذا القطر.
بعد أن استلم الإمام مسئولياته في سنة 1624 ميلادي بدأ العمل من فوره.. بعث الرسائل ووجه السرايا و جهز الجيوش لتوحيد عُمان، و مرت 8 سنوات لا أكثر، و ليقدم النجاح في طبق من ذهب.. هذه السنوات التي قضت على تمرد و تمزق 200 عام وعند يأس الأقوياء قام الإمام الفتي ناصر بتوحيد عُمان كلها. لقد شهد عليه الباحثين الأوربيون و العرب على أن عمله هذا نادرا و يدل على شخصيته القوية، و أنني أراه يجب أن يكون رمزا تفتخر به الإنسانية كلها. لقد أثبت جدراة نادرة و قوة عظيمة استمدها من إيمانه بالله القوي الحميد و من رجال وفُّوا العهد الذي عاهدوه بالشرط الذي اشترطه عليهم و كان النصر حقا للمؤمنين.
و في أغسطس من عام 1633ميلادي توِّج الشراة بأول نصر لهم على البرتغاليين في جلفار بساحل عُمان، في هذا اليوم تم اقتلاع الفرس و البرتغاليين معا و هدم هيبتهم و القضاء على قوتهم ليدوي خبر النصر لأهل عُمان جميع أقطار المعمورة. هناك بلى العُمانيين بلاءاً حسناً و حرروا أرض ما يعرف اليوم بالإمارات العربية و استطاعوا طرد البرتغاليين و الفرس منها، لينطلقوا في عنان النصر يخوضون المعارك و يقتحمون الساحات بتكبير يهز الأرجاء، وفرحة بالنصر لتخضع الجيوش المستعمرة أمام جيش الإمام.
و في عام 1648 حرر الإمام ناصر صور و قريات لتبقى في يد المستمعر مسقط و صحار، ولكن تحت شروط حددها الإمام ناصر ولم يستطع البرتغاليين رفضها لأنهم يعرفون بأن من يقود جيوش عُمان رجلا إذا قال فعَل.
وجعل الله لكل أجل كتاب، و قد أنهى الإمام العظيم ناصر بن مرشد ما شاء الله أن يكلفه به، و فتح الطريق لأهل عُمان لمستقبل زاهر و يصبح المستقبل التي تتهاوى إليه كل أمم الأرض حتى بريطانيا و الدولة العثمانية تتردد على هذه البلاد لتحصل على الصداقة أو الحماية أو النصرة. لقد بقي دين تلك الدماء التي سُكبت لأجل التحرير يوم حررت أبو ظبي و الشارقة و رأس الخيمة والفجيرة و عجمان و أم القيوين ودبي و خورفكان و شناص و لوى حتى صور ماعدا مسقط و صحار، لتيبقيها الإمام تحت الخناق القاتل.
و في يوم بكت فيه عُمان بكاء مرير، و حل سواد الحزن على أهلها بدموع حارة، و تغيرت فيه الفرحة العارمة إلى حسرة الحزن الكبير، قضى الإمام ناصر حياته في جهاد لتوحيد القوى العمانية المتناحرة، والصلح بين كل متخاصمين، و شمر ساعديه منذ عمر 21 عاما لا يهنأ النوم و لا يطعم الراحة إلى تحت ظلال البنادق و المدافع، و فُسْحته في صرير القلم و الصوم و الصلاة، و سلوته قراءة القرآن و الذود عن الأرحام.
رجل حق على كل مسلم أن يفخر به، و أن يحترم ما فعله، و لا يبخس حقه و حق المقاومة التي بدأت في يوم لاحت فيه أعلام الغزاة من سقطرى و صور و قريات و مسقط و صحار.. صحار لها حكاية خاصة في الدفاع، حكاية مزقت فؤاد القاسي حزنا، صحار دمعة جارية من تحت قلعتها التي دفن الغزاة فيها المرابطين.
بعد أن بلغ الإمام العظيم ناصر بن مرشد اليعربي عمر السابعة و الأربعين وفي إبريل عام 1649ميلادي فاضت روحه إلى بارئها، راضية مرضية، حاملة ريح الجهاد، و غبار المعارك، وتركت لنا سطرا بل مجلدات تتحدث عن قوة المؤمن وعنوان الفداء و رمز الجهاد في شخص الإمام ناصر رحمه الله تعالى و رضي عنه. فليتها ذكرى في كل عام نتذاكرها، و نتدارس تلك الأيام و نأخذ عبرتها و نوفي بحق أسلافنا المكرمين، ليت العالم الإسلامي يعرف من هو ناصر ومن كانوا معه، و سلطان إبن عمه و سيف ابن سلطان و بلعرب باني جامعة العلم الإسلامية في عُمان.
ربنا اجعل الإمام الوفي الرضي ناصر بن مرشد في رحمتك و أغفر له عن كل ذنب إنه حمى دينك، و أعاد لأرض عبادك هيبتها، و جدد لأمة طريق هدايتها. و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله وأصحابه أجمعين.

الاثنين، 26 ديسمبر 2016

تجربة الترشح للمجلس البلدي.. واقع وحقيقة

بسم الله الرحمن الرحيم



تجربة في الترشح للمجالس البلدية



ما أن بدأت عمر الخامسة عشر حتى بدأت الأفكار تعانق مخيلتي ونفسي تثير غيرتي لأجل وطني، الوطن الذي ملأني جميلا ومعروفا جعل في قلبي له حبا وديْناً، فلم ترتاح نفسي حتى أقدم لبلدي عطاء أو معروفا واجب علي أداؤه، فبدأت في المحاولات ،بدافع الغيرة وحب الوطن.

في خضم تلك المسيرة أُعجب بي الكثير من أبناء ولايتي  الذين لمسوا في الإخلاص والوفاء والقدرة على العطاء، إلا أنني أرى أن إحساسهم كان مبالغة.. هؤلاء أصروا علي للترشح في المجلس البلدي للولاية، كنت رافض تلك الفكرة وكانت محاولات الإقناع كثيفة حتى وافقت وترشحت..

لم أكن أحلم بالفوز بالإنتخابات قدر أني كنت أتمنى أن لا أحمَّل أمانة قد تكون سببا في التقصير أوتوقف العطاء، ومن هنا بدأت القصة...

كان كل شيء بدأعلى مايرام، كانت الأمور هادئة وأفكاري في موضوع الترشح والانتخابات مثل أفكار كل واحد، كنت أنظر إليها وسيلة لأجل العطاء والبذل والعمل، لم أكن راضٍ على أعضاء المجالس البلدية والشورى السابقين فقط لأنني أريد منهم الجهد الأكبر، وأنني كنت أنظر إلى أن المجتمع لا يحتاج إلى المطالبة لتحسين الخدمات قدر ما هو محتاج إلى العقول الناتجة والقلوب الوفية، وكانت نظرتي أن كل عضو يجب أن يكرس نفسه نحو تنمية الثقافة الإجتماعية ومساعدة الناس نحو الوصول إلى المستوى الذي يمكِّن الكل من العطاء والنماء، يجب أن يزرع في العقول أن الوطن ليس للحكومة وحدها بل لنا جميعا ولهذا يجب أن نتعاون جميعا في خدمته ورقيه بما نملك من فكر وقوة بدن وقوة مال. إن الوطن يحتاجنا كما نحتاجه وأن الحكومة عليها دورها وعلينا دورنا، يجب أن يعمل كل فرد جاهدا كي يعرف المجتمع دوره الحقيقي. ولا يزرع في عقول الناس حب المناصب والتكالب عليها سواء بالرشاوي أو الخداع أو النصب أو الوعود أو الرياء.. 

إنه الوطن الذي يجب أن يختار الرجل المناسب ليس لكثرة ماله ولا كثرة شهاداته ولا عضوياته، بل لقوة تفكيره وحسن سريرته ووفاء نفسه وإتقان عمله، رجل كان موجودا بين العامة بأفكاره وأعماله وإخلاصه، وليس شخص ظهر فجأة قبل الترشحات، أو رجل عنده المال ويبذل بماله ويعطي قبل  الترشح بأعوام قليلة وقد بلغ الأربعين ولم يشاهده أحد طول الأربعين عام في المجتمع لا في عمل صغير ولا كبير. إن الشخص الفقير المخلص الوفي المفكر المنتج خير للوطن من الثري المرائي الذي يشتري النفوس بماله أو جاهه أو منصبه. 

إن في المجتمعات المثقفة يبحث الناخب عن المترشحين ويسأل عنهم ويبحث في أوراقهم وأعمالهم وقراهم وبلدانهم ويقيس إنتاجاتهم الفكرية والعملية ثم يقيِّمهم وبعد ذلك يختار المناسب. ولا ينتظر المجتمع أن يأتي المترشح بنفسه ويبذل ماله أو يضلل بكلامه صدق أو كذب. ولا يعتمد على فريق المترشح وأهله في تقييمه بل كل شخص يبحث بنفسه عن سيرة هذا المترشح، ولا ننكر أن للكلمة قوة في تغيير الآراء وكذلك هناك قوة أكبر في البحث والتثبت في سيرة هذا المترشح. وينظر في إنتاجه وليس في كثرة عضوياته ولا كثرة ماله ولا كثرة أشياعه ولا كثرة شهاداته. وأتمنى أن أرى مجتمعنا يوما بهذه الصورة التي فعلا ستؤهلنا إلى الرقي والسمو والتقدم والقدرة على تحمل المسئولية كاملة نحو حياة أفضل.

فعندما بدأت في حملتي الإنتخابية كان معي شخص واحد، هو أحد البارزين في تشجيعي للترشح، ولم يقصر معي في وقفته وكل ذلك لاقتناعه أنني سوف أغير الولاية إلى الأفضل وأنه سوف يكون لي بصمة ستترك أثرا حسنا للأجيال اللاحقة. ومرت الأيام وبدأت تظهر بوادر الحقيقة التي يعيشها المجتمع، الحقيقة المرة التي لم أكن أصدقها يوما حتى بدأت أراها أمام عيني، إنه مجتمع عازف عن الإنتخابات، وقسم قد اعتاد على المترشح الذي يعطي المادة لأجل الأصوات.. ومضت الأيام ليظهر أمامي رجل كنت أحترمه وكنت أظن فيه الأمل الصاعد لهذه الولاية، حتى أظهر حقيقته ليُقدم أحد موظفيه في رتبة "منسق" للترشح. إنه عضو مجلس الشورى والذي كان يجب أن يكون رجل شورى، رجل يقتدى به في النزاهة والصدق والأمانة، رجل كان يجب أن يكون مع الولاية سندا وعونا يقف مع الجميع نحو مصلحتها وصلاحها. ولو أن "المنسق التابع له" رجلا أكبر المترشحين كفاءة في العقل والجسم والعمل ما كان على عضو مجلس الشورى أن يلعب تلك اللعبة على الولاية، ولو أن أحد المترشحين مفسد مشهور له بأن سيفسد الولاية؛ لكان عليه أن يقف ضده ويعمل بصمت مع الجهات المختصة بدون ضجة ولا تجريح. ربما كان علينا فحص مقدرة الممثل لنا في الكتابة والقراءة، ربما لا يتقنها ولو أنه حاصل على الدبلوم العام أو غيره، ففن القراءة و الكتابة والإلقاء أساس لوصول صوت الولاية إلى المجلس البلدي أو مجلس الشورى أو أي جهة أخرى، فالضعيف في القراءة والكتابة والإلقاء لا يمكنه إيصال كلمة الولاية بالنحو المطلوب.

إلا أن عضو مجلس الشورى ذهب بعيدا وأخذ يؤجج الناس لأجل "مرشحه المنسق" وصار يبعد بعيدا عن الأعراف وعن التشريعات حتى كتب رسالة وبعثها عبر وسائل الاتصال للمجتمع تداولها الصغير والكبير وسمعها الضعيف والقوي بفحوى ( كل المترشحين غير أكفاء، وأن الشخص الكفؤ فيهم هو  مرشحه "المنسق") ولو قارنا بين المترشحين كان بينهم سخصين ذوا كفاءة كبرى لا يقاس بهم "المنسق" أبدا، وأراهم أكفأ مني واعترفت بذلك مرارا، ونعم تم لعضو مجلس الشورى ذلك الهدف بكل سهولة ولا مبالاة. أحدث ضجيجا كثيرا أبعد أصوات الناس عني وعن الكثيرين، وكلما اقترب موعد الإنتخابات بعث رسالة أقوى للمجتمع، وهو الرجل الذي وضعنا فيه ثقتنا، الرجل الذي ربطنا به الأمل نحو الرقي لولايتنا، وللأسف يضرب الولاية في جرحها المؤلم، وسقط القناع حينها عن مجموعة شكلها من أشياعه ومناصريه ليضرب قانون الدولة في جدار قاتم ويظهر أول عضو لمجلس شورى يكوِّن لنفسه "عصبة".. هؤلاء اشتغلوا بقوة لأجل إرادة عضو مجلس الشورى، اشتغلوا حتى لتشتيت كل من اقتنع بي وبالمترشحين الآخرين، قد جمعت مئات الأصوات وكان أغلب المترشحين ينظرون إلي المنافس الأقوى وبعضهم كان يظن أني سأكون في المركز الأول، كان الكثيرون يتهجسون حال الأصوات وكانت ردودهم تصلني بأن لي الأصوات الأكبر، أحس عضو مجلس الشورى بذلك فأخذ يتصل بي ويطلب لقائي لأجل الحديث عن ترشحي، أصبح يقترب مني أكثر ويدعوني للجلوس معه، ومن جهة أخرى كان يلعب لعبة مع مجموعته لتشتيت أصواتي وتم ذلك بإشاعات نشرها. لم أتضايق أن أصواتي بدأت تشتت ولكن ما ضايقني هو أن  ما يقوله المجتمع وما كنت أتوجسه كان صحيحا، أن المصالح الشخصية طغت على مصلحة وطني، وأن قوة الوفاء والإخلاص تنعدم، كل هذا الكلام أكتبه والقارئ سيتفرع فيه لمقتضى تفكيره. والواقع أنني جربت هذا بنفسي واكتشفته بنفسي وما كنت أنظر لنفسي أنني الأفضل بل كنت أتمنى أن يفوز الأفضل بالمجلس -فلكل دوره - وهم بعض المترشحين وأعرفهم وأعلنت عنهم في حملتي الإنتخابية.

في تجوالي بين المجتمع لاحظت اليأس فيهم من أعضاء المجالس البلدية والشورى، سمعت ذلك كثيرا حتى حزنت على واقعنا المؤلم والذي أكده تصرف عضو المجلس الشورى ، وأن بعض أفراد المجتمع يعمل لذاته الشخصية وأن المصالح الشخصية فيه هي الأولى، إن ما فعله عضو مجلس الشورى رسالة قوية إليّ من واقع المجتمع، رسالة مؤكدة أن لسان حال مجتمعنا صادق. أولئك الذين رددوا لي كثيرا أن هذا المجتمع محتاج للإصلاح، وأنهم سئموا من الإنتخابات والترشحات والتي لم تعود عليهم بالنفع والتي كنت أرفضها ولا أصدقها؛ وهذا عضو مجلس الشورى أكد لي صدقهم من خلال ما قام به، علاوة  على ذلك فوز مرشحه "المنسق" أعطاني التأكيد التام أن قوة التصويت ليست إلا من قوة المصالح الشخصية، كل ما كان الدافع الشخصي أقوى كان التصويت لأجله أكبر، والمجتمع لا يحس بذلك إطلاقا. والإختيار للتعصب القبلي والعنصرية يحتل المرتبة الثانية بعد المصلحة الشخصية من أصحاب الجاه والنفوذ، هكذا يرفعون شعار الإخلاص؛ فقط لتضليل الآراء.. والواقع شيء آخر.
إن هذه تجربة قمت بها ومن خلالها عرفت ما يدور في أروقة الإنتخابات وأوراقها. هنا أتمنى من المجتمع أن يزداد اطلاعا وثقافة في هذا الجانب، أتمنى أن يختبر الشخص قبل اختياره في كلمته وقلمه، وفي رأيه وفكره، ولا يراه من خلال فريقه وعضوياته وأهله، بل من ناحية عطائه وإنجازاته.. وأن لا نترك صوت الجهل يخترق المجتمع ولا صوت العنصرية والمصلحة الشخصية يفوز على صوت العدل. فوطننا يحتاج لعدلنا ويحتاج لإخلاصنا ولوفائنا ولا تتم الإنجازات من الحكومة مادمنا فقراء من إنجازاتنا بأنفسنا.