الثلاثاء، 27 ديسمبر 2016

وادي سمائل

نه الصدع العظيم الذي فصل الكتل الحجرية الكبرى في عُمان إلى قسمين، هذا الأخدود الذي تكون قبل ملايين السنين من الحجر الجيري و الحجر الناري، و الذي يضم أكبر مجموعة صخرية من صخور الأفيولايت و الذي لا تشابهه تشكيلات و مساحة كبيرة في الأرض. هذه الصخور التي تشكلت من الحمم البركانية التي نشطت تحت قاع المحيط و بردت في عمقه مثلت اليوم أضخم تراث طبيعي في عُمان.
من الجهة الغربية لهذا الوادي يرتفع في عنان السماء سلسلة جبل الأخضر و التي تمثل الصخر الرسوبي و فيها من الميزات الطبيعية الكثيرة و التي لا تحصى، وفي هذه السلسلة عدد من الهضاب الكبيرة التي استوطنها الإنسان عبر العصور. و إن الفائدة الأولى من هذه السلاسل الحجرية الوديان التي كانت  ومازالت المصدر الكبير لتجمع مياه الأمطار و منها استوطن الإنسان لفترات طويلة جداً.
إننا أمام وادٍ لا يمثل حجماً طبيعياً ضخماً فحسب إنما نحن نتحدث عن وادي له أبعاد سياسية و اجتماعية و  اقتصادية و تاريخية و علمية، و يمثل منطقة جغرافية و اجتماعية واحدة. هذا الوادي الذي يبدأ من نجد المغبارية في ولاية سمائل حيث تتجتمع في هذه المنطقة مياه وادي العسي القادم من أعالي قمم الجبل الأخضر ، و وادي المسقاة القادم من عمق كتلة الأفيولايت الشرقية. استخدمه الإنسان منذ وقت مبكر ليكون ممر رئيسي يربط مناطق عُمان القديمة والحديثة، و تشكلت منطقة جغرافية واسعة تضم عدد من الأودية الرافدة لوادي سمائل مع الجبال و السيوح و البلدان و القبائل بمسمى وادي سمائل.
وادي سمائل هو المعبر الرئيسي لأهل عُمان في حقب و عصور تاريخية قديمة جداً حتى يومنا هذا. عبر دلتا الوادي في مدينة السيب تبدأ حكاية المسار البشري و الطبيعي. مسار ليتنا نستطيع أن نؤجز بعض أهميته العلمية و الاجتماعية و الاقتصادية عبر سطور قليلة نتحدث فيها عن الأخدود الكبير.
في ساحل بحر عُمان تقع آخر مدينة قامت على ضفاف وادي سمائل و التي مثلت المنفذ البحري الهام و المُلتقى الاجتماعي بين سهل الباطنة ومسقط و داخل عُمان. ينقسم وادي سمائل في السيب إلى ثلاثة أقسمام هي: وادي اللوامي، و وادي البحائص، ووادي العرش. هذه الأودية الثلاث تمثل دلتا وادي سمائل و قد كانت من أفضل المناطق زراعياً بما تحوي من التربة الطمية الغنية بالمواد العضوية التي ألقاها وادي سمائل عبر ملايين السنين من وجوده.
بعد أن نخرج من “السيب” متجهين جنوباً نحو رؤوس وادي سمائل تقابلنا مدينة “الخوض” و التي تقع في عمق صخري تجري فيها المياه طوال السنة و أخذ اسمها نسبة إلى كثرة خوض المياه. و نترك الخوض و نتابع المسير جنوباً لنصل “فنجاء”، المدينة الرائعة بخضرتها و مياهها و الروافد المائية الكثيرة، هنا في فنجاء نستطيع مشاهدة الجروف الصخرية التي شقها الوادي عبر حياته و شكل الإنسان عمارة فنية بديعة فوق هذه الصخور في عمارة هندسية جميلة، تحكي لنا الأهمية الكبرى التي كان يحتلها وادي سمائل. و في فنجاء تصب عدد من الروافد  في الوادي الرئيسي مثل وادي الحيضان ووادي الضبعون.  و بعد فنجاء مباشرة وعلى سفح الجبل الأحمر تربض “العمقات” و “الملينة” قريتان كالأختان بجمالهما الأخاذ. في الجهة الغربية تحت جبل ثميد عند رؤوس أحد روافد وادي الضبعون تقع “حميم” بفلجها الحار، و جارتها جنوبا “ثميد” و هي أحد القرى التي أخذ جبل ثميد منها اسمه و في شرقهما تقع “الوغلة”.
قد توقفنا في العمقات و الملينة في قلب الوادي الرئيسي نتابع المسير نحو رؤوس وادي سمائل، بعد الملينة جنوباً نجد أحد روافد وادي سمائل المعروف “بوادي النجوم” ثم نتخطى ملتقى وادي النجوم بوادي سمائل فنصل إلى مدينة “بدبد” بقراها الوافرة الظلال الغزيرة المياه العميقة الجذور التاريخية، فأول ما ندخله هي قرية “مزرع بنت سعد” من الضفة الشمالية لمسار الوادي، و “القرطاع” و “الخوبي” من الجهة الجنوبية، و ثم بدبد و “البويرد” حكاية لها معناها في تاريخ عُمان العريق. و في هذه المنطقة يلتقي الوادي الضخم “وادي منصح” أحد روافد وادي سمائل العظيمة، و هذا الوادي يعتبر نصف وادي سمائل من حيث عدد الروافد وطول المسار، فأول منطقة ندخلها في وادي منصح هي “نفعا” بلاد لها من السحر سطور تحدثنا كلما دخلنا فيها، بلاد واسعة فسيحة جميلة، فإذا واصلنا المسار نحو رؤوس وادي منصح نمر على عدد كبير من البلدان منها “الرمرامي” و “الحن”” و “غرابة” و “مسبت” و “جردمانة” و جميعها تقع على روافد وادي منصح. و وادي منصح يشترك في الرؤوس مع وادي الطائيين وأودية ولاية العامرات. فإنه لا يكفي المقال لسرد الحياة البرية و الجمال و عجائب وادي منصح ونكتفي بهذا القدر.
قد وقفنا في مدينة بدبد عند مُلتقى وادي سمائل مع وادي منصح، فهنا نريد أن نتوقف قليلاً لنعرف عن مدينة بدبد شيء يسير، هي المدينة التي استقطع اسمها من عبارة “لابد لابد” أي أنها المدينة التي لابد المرور فيها للمسافرين إلى الساحل أو الداخل من عُمان، هي مدينة بها حصن شامخ بقاعدة واسعة يضم عدد من القلاع الحصينة، و بها آثار تاريخية قديمة  من العصر الحديدي تدل على استحكامات عسكرية قوية، و تعتبر أثرى مناطق عُمان زراعياً و اقتصادياً حتى صار يضرب بها المثل لتسمين الهزيل و إشباع الجائع، وقيل إذا جاعت فخذها إلى بدبد، أو الهزيلة تودى بدبد.. ساهمت بدبد عبر التاريخ العُماني في أحداثه و معتركاته و تغيير مساره و ثوراته. إنها باختصار بوابة عُمان البرية التي من يقبضها قبض على عُمان الداخل. و نشد الرحال من بدبد متجيهن غرباً هذه المرة لنلتقى في “المُلتقى” قرية لها دلالة تاريخية مختلفة و لها أسباب خاصة لبنائها و وجودها، هنا نفترق.. أو نلتقي كما هو اسمها، هنا ينقسم اتجاه رحلتنا جنوباً و إتجاه آخر غرباً ، جنوباً عبر “سرور” بلاد السرور و السعادة و السؤدد، بلاد كثيرة الشجر أفلاجها عذبة تنهمر، هي بلاد السرور فعلاً .
بعد سرور نواصل المسار جنوباً لنمر على ملتقى وادي نداب بوادي سمائل غرب “لزغ” قرية محايدة بعيدة عن ضجيج الأودية، ترويها مياه الوديان و هي في سلامها و سكونها الجميل.
لنذهب فالرحلة مازالت مستمرة و طويلة، لنشاهد في ضفاف الوادي من الجهة الشمالية آثار قد سحقتها عوامل التعرية و بقيت تصارع لأجل البقاء إنها ” الردة” بقايا حياة لنبي الإنسان، بعدها نصل نحو مُلتقى وادي العق مع وادي سمائل، و هنا تنفصل الطريق عن الوادي الرئيسي لتتجه جنوباً نحو أخدود ضيق يمر فيه وادي العق، هذه الطريق هي الموصلة نحو الشرقية بمدنها العريقة شامخة في عنان الوجود. سوف نصادف في مسارنا بوادي العق قرى عديدة و هي : الدسر ثم السيجاني و ثم الطوية و السنسلة و نقضي رحلتنا منه في نجد مريموه لننحدر جنوباً عبر وادي عندام في الجرداء. كأننا نسينا وادي نداب.. تقع في وادي نداب قرية واحدة و هي “نداب” إنها قرية تدفن في ثراها تاريخ طويل غني بالآثار.
من الأفضل أن نترك وادي العق و نواصل الرحلة نحو رؤوس وادي سمائل، إلا أننا تركنا خلفنا مسار لطريق من الأفضل أن نسلكها و لكن قبل ذلك لابد أن نخبركم عن قرية “هصاص” هذه القرية تقع على الضفة الجنوبية لوادي سمائل بعد مُلتقى وادي العق، قرية واسعة في وسط الرحاب الواسعة يلتقي عندها وادي صيا. بعد مُلتقى وادي صيا في هصاص نشاهد بساط أخضر ترتفع منه منارة مسجد قد تشكلت من ذلك لوحة فنية، هذه هي “العوينة” بلاد منفردة كلزغ بعيداً عن ضجيج الوادي و الطرق.
الآن نعود إلى المُلتقى، في المُلتقى يلتقي وادي سمائل بوادي المُلتقى و الذي يتكون من ثلاثة أودية أهمها وادي الجيلة و الذي يجب أن نسير فيه لنتعرف عليه، بعد عبورنا أخدود ضيق بين جبال الملتقى وجبل الرسة نتعرف على  الملتقى بحارتيها الملتقى الحدرية و العلوية فنصل إلى ملتقى وادي الجيلة مع وادي ماء و وادي البسيتين، عند هذه النقطة يجب أن نتجه جنوباً في سيح طويل عبر جبال شاهقة.
لكننا نواصل المسير غرباً عبر وادي الجيلة لنصل إلى قرية أشبهها بمدينة عجوز، إنها “فيقا” القرية التي اخذت اسم “فيحة” اليوم، إنها من أجمل مناطق الوادي في جرف ضيق يجبر الوادي فيه بأن يجري ليشكل بركاً ومساقط مائية بديعة الجمال. في فيحة آثار تاريخية كثيرة و الجلوس فيها احساس بالهيبة التاريخية العظيمة خصوصاً لمن يعرف عن قصتها و أساطيرها. قد لا يكفينا الوقت و يجب أن نتابع المسير.. بعد الخروج من فيحة بما فيها من الفلجات و المسفاة نشاهد أبراجا في قمم الجبال مفترشة تحتها بساط واسع شديد الإخضرار فهذه هي “الجيلة” الذي أخذ الوادي اسمه منها.. بعد الجيلة نتجه غرباً نحو جبل ضخم شامخ لنجده قد ضم تحته “البير” قرية صخرية بها فلج جميل و جنوبها تقع “الهوب” إنها أختها التوأم تعيشان تحت الجبل العظيم بسلام وإطمئنان.
حالياً يجب أن نعود نحو المُلتقى مرة أخرى، لنواصل المسير عبر سيح البسيتين إلى قلب الوادي، نحو مدينة سمائل.. بعد خروجنا من المُلتقى نسير مسيراً طويلاً بدون أن نجد أي بلاد حتى نصل المدينة الكبيرة مدينة “سمائل” التي أخذت المنطقة كلها اسمها من وادي سمائل من هذه المدينة العريقة، مدينة سمائل و أي سطور نستطيع أن نتحدث فيها عن هذه المدنية؟ سنترك الحديث لوقت آخر لأننا في عجلة من الأمر. في أخدود ضيق بين جبال الأفيولايت نتابع المسير في مياه تنبع و تفوح من كل الجهات و أشجار كثيفة و نسيم عليل… نتابع المسير نحو 14 كيلومتر مسار الوادي المتعرج لنخرج من مدينة سمائل، في طريقنا نجد بأنه تلتقي عدد من الأودية الصغيرة مثل وادي الدن و الإبراهيمية، وقُبيل خروجنا من الأخدود الضيق نشاهد شموخ الراسيات فوق السماء ، إنه منظر لا يُفوَّت… و عند “المدرة” نجد مُلتقى وادي الهوب و وادي هيل ووادي السدر، ويقع في وادي هيل ثلاث قرى و هي : “المنابك” و “حنة” و “هيل” قرى تعانقت تحت الشامخ المهيب “جبل هيل”، مشكٍّلة منظراً رائعاً لا تُخطئه العين.
هنا يجب أن نتوجه جنوباً فالرحلة لم تنتهِ بعد..
بعد خروجنا من هيل نواصل المسير عبر سيح الراسيات حتى نصل قرية “سيجا” قرية جميلة منفردة بحيويتها و كينونتها الهادئة،و في الجهة الشرقية بحجر الأفيولايت يأتي وادي فلج المراغة و الذي به قرية “بوري” و “فلج المراغة” يشترك الوادي مع وادي محرم ووادي سقط و له ميزاته الرائعة إلا أننا يجب أن لا نتوقف فلنواصل.. نصل إلى أول قرى وادي بني رواحة لتقابلنا قرية “منال” و أختها “بياق” قريتان متصافحتان بجمالهما و عطائهما و سكون الحياة فيهما. “”وادي بني رواحة” هو الرافد الثاني لوادي سمائل وادي جميل يضم عدد كبير من القرى نتعرف عليها عبر مسيرتنا هذه، نصل إلى “العين” و “وصاد” و “وادي قري” و “الرسة” و”المحل” بين الجبل الأشم من الحجر الرسوبي غرباً و الحجر الناري شرقاً تنبسط قرى وادي بني رواحة تتحدث فيما بينها بمزحاتها و ضحكاتها و سمرها الذي لا يُمل..
في هذا الوادي تلتقى عدد من الأودية أهمها وادي قري يشق الجبل الشامخ و يشكل بداخله بدائع خلق الله، و وادي الرجم و ثم وادي الشوعية، نصل عند قرية المغبارية..
بدأت الرحلة تنتهي.. في قرية المغبارية نصل إلى آخر رؤوس وادي سمائل، في الجهة الغربية من أعالي قمم الجبل الأخضر يصب وادي العسي الذي افترشت قرية العافية منه مكاناً مرموقاً يحسده كل من يراه.. إنها قرية محسودة بحق..
و في الجهة الشرقية تشق عدد من الأودية تلتقي في قرية المغبارية و التي يسمى بوادي المغبارية بعد مروره بقرية “الفلجين” القرية المخبأة بين الصخور، قرية تفاجأك عندما تصل إليها ببسمتها اللطيفة. بعد إلتقاء وادي المغبارية و وادي العسي تشكل أول أودية وادي سمائل و هو “وادي المسقاة” أي أن هبوط هذا الوادي يغذي أغلب قرى و مدن وادي سمائل. فهنا نجلس في “السحاماة” نشاهد الأخدود من بعيد وقد عبرناه بسرعة و لكن يجب أن نمكث فيه يوماً لنرى الطبيعة و يد الإنسان في عناقهما الهادئ.
نحط الرحال هنا و نستريح و نتذكر خمس مدن   في مجرى وادي سمائل و عدد آخر من القرى الكبيرة و التي ستكون يوماً ما مدن في العمران بالنهضة المباركة، و نتذكر أهمية هذا الوادي كمعبر رئيسي استخدمه الإنسان منذ آلاف السنين و استوطنه لغزارة مياهه، و قربه من الساحل، و خصوبة أرضه، و حصانة موقعه، و أهميته التجارية، و أهميته السياسية، و أهميته الاجتماعية، فبه قرى بنيت بقسوة و صعوبة فقط لأن موقعها في وسط الاقتصاد و الاجتماع و السياسة لتبقى ترفرف قرى وادي سمائل و جباله و حياته قرن بعد قرن تصارع لأجل البقاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق